كتاب
مفهوم الحرية في التاريخ
بعد كتابيه «الدائرة المربعة» و{حوارات في التداخل الديني والسياسي» يطلّ علينا الدكتور راتب الحوراني بكتاب «مفهوم الحرية في التاريخ» الصادر أيضًا عن «دار الفارابي»، يعالج فيه أسئلةً عدّة تطرح نفسها تحديًّا واستفزازًا على كلٍّ من المؤرخ والفيلسوف.
يذكّرني قول الدكتور راتب الحوراني في مطلع مقدّمته العامة: «قد لا نبالغ إذا ما اعتبرنا أنّ لا تاريخ خارج الإنسان ولا خارج المجتمع البشريّ» بقول المؤرخ والناقد الإنكليزي توماس كارلايل في الموضوع نفسه: «تاريخ العالم، أو تاريخ ما أنجزه الإنسان في هذا العالم، ليس هو في قرارته سوى تاريخ العظام من الرجال؛ فهم المبدعون لكلّ ما حقّقه الإنسان ولكلّ ما نراه حولنا من منجزات. وهو نتيجة التجسيم الخارجي المادي والعلمي للأفكار التي ولدت في أذهان أولئك العظام من الرّجال».
فالإنسان إذًا هو مَن صنع التاريخ وأعطى معنًى له، وليس التاريخ هو الذي يصنع الإنسان. وفي مجرى التاريخ تاقت نفس الإنسان إلى الحرية تبحث عنها منذ بدأ يحبو على التراب.
أسئلة
أسئلة عدّة طرحها المؤلّف في المقطع الأوّل من كتابه محاولاً الإجابة عنها:
هل للتاريخ من بداية ونهاية؟
هل للتاريخ من معنى خارخ التاريخ نفسه؟
ولكن هل من معنى معين أو وجهة معينة للتاريخ؟
ويتساءل المؤلّف هل يمكن لكاتب التاريخ أن يكتب من دون مجابهة مثل هذه الأسئلة؟ أليست هذه الأسئلة من اختصاص المؤرخ؟ أم أنها تقتصر على مجال فلسفة التاريخ؟ وهل يمكن لفلسفة التاريخ أن تعالج مثل هذه الأسئلة من دون الاضطلاع بمهمة البحث الجدّي في مجال التاريخ نفسه؟
قد لا يجيب الكتاب عن هذه الأسئلة إجابةً حاسمة ومباشرة، لكنه يحثّ القارئ المهتمّ بالتاريخ، من داخل هذا العلم أو خارجه، للبحث عن معنى التاريخ وعن الحقيقة الأولى والأخيرة له.
تواريخ في تاريخ
علم التاريخ هو أحد العلوم التي تتناول الإنسان في مختلف أوجه نشاطاته ولا بدّ من القول إنّ كل ما يخصّ الإنسان، فردًا أو جماعة، أي كل نشاط باعتباره يحمل أثرًا إنسانيًّا معيّنًا، أكان إنتاجًا ماديًا أم إنتاجًا ثقافيًا، إنما له تاريخيته وتاريخه الخاص، ويدخل هذا التاريخ كجزء لا يتجزأ من التاريخ العام ككل.
وكم من دول وحضارات قامت وانهارت لتقوم على أنقاضها دول وحضارات أخرى ترث عنها ما تستطيع أن ترثه وتنابع المسير. عما تبحث هذه الشعوب في مسيرتها اللامتناهية؟ عما يبحث هذا الإنسان في صراعه الدائم مع الحياة ومن أجل الحياة، مع الوجود ومن أجل الوجود؟ أليس من حقنا أن نسأل علماء التاريخ في العالم العربي عن الغاية التي يسعى إليها الإنسان العربي والمجتمع منذ كان هذا الإنسان وهذا المجتمع؟ أليس من حقنا أن نسأل أيضًا أين نحن الآن في مسيرتنا هذه؟
مفهوم الحرِّية
يبدو أنه من الضروري قراءة التاريخ العربي والتاريخ العالمي «لتبيان الدور الذي لعبته وتلعبه الأشكال والأطر التنظيمية المختلفة التي عرفها ولا يزال يعرفها المجتمع العربي- بدءًا من القبيلة إلى الدولة القومية الدينية، إلى الدولة الحديثة الدنيوية أو الدينية ودخول هذا المجتمع في دائرة المجتمع العالمي- في عملية تحقيق الذات الإنسانية للفرد والجماعة، في عملية تحقيق حرية الذات في علاقاتها مع ذاتها ومع الآخرين تلبية للحاجات العميقة للنفس البشرية، وبالمقارنة أيضًا مع ما حققته الشعوب الأخرى في مسيرتها التاريخية، ونكاد نقول إن لا تاريخ من دون تاريخ مقارن. إن هذا المنظار، منظار مفهوم الحرية، لهو مفتاح أساسي ويجب ألاّ يغيب أبدًا عن ذهن المؤرخ في قراءته وكتابته للتاريخ.
ولكن لا بدّ من تعريف مفهوم الحرية كمفهوم أساسي يتّسع ليشمل الحركة التاريخية بمجملها، أي بكلّ أبعاد النشاط الإنساني ومجالاته، من حيث إن الحرية هي المجال الأوسع والأشمل لتحقيق الذات الإنسانية اللامتناهية في أبعادها المتعددة والمختلفة...».
والحرية تكتسب في كل يوم تعريفًا جديدًا وأبعادًا جديدة تُضاف إلى مفهومها الأصيل وتسهم في إغنائه. فالحرية في تطوّر مستمرّ ولا يمكن رؤيتها إلا في هذا النمو الدائم وفي الحيوية الدائمة منذ وجدت هذه الكلمة.
الوعي الحيّ
القانون الأساسي الذي يهيمن على الظاهرة الإنسانية هو قانون الوعي، أي الفكر. والخاصية الرئيسة للوعي هي قدرته على مراكمة المزيد من الوعي وعلى تجاوز القيود المادية التي تقيّد الجسد.
والوعي الحيّ لا يستطيع إلا أن يكون حرًا في حركته الدائمة، وهو يصل إلى درجة الحرية المطلقة في قدرته على التخيل وعلى تجاوز كل الحدود الحسية والعقلية وغيرها إذا ما أطلق العنان للقوّة المتخيلة.
ويتابع المفكر راتب الحوراني في تحليله الفلسفي فيقول إنه لا توجد أيّة قوة خارجية قادرة على التحكّم بمخيلة المرء إلا إذا صارت هذه القوة جزءًا من إرادته الداخلية. والتاريخ مليء بالأمثلة التي تشهد على أن قوة الحديد والنار قادرة على إهلاك الجسد المادي- العضوي ولكنها عاجزة عن إخضاع قوة الإرادة الداخلية، كما أنها عاجزة عن أن تملي على الإرادة الحياة الداخلية خلافًا لما تراه هذه الإرادة إذا ما وجدت.
ومهما تباينت الآراء حول تعريف الحرية، فثمة إجماع على أنّ لا حرية خارج الوعي، كما أن لا حرية خارج النظام، فالحرية هي دائمًا وحدة وعي ونظام.
الديمقراطيَّة
بعد أن يبرز المؤلف البعد الاقتصادي منذ كانت أدوات العمل في منتهى البساطة كالحجر والعصا ليصل إلى انقسام البشرية بين أسياد وعبيد، ينتقل إلى البعد السياسي في المجتمعات انطلاقاً من شكل العائلة والقبيلة التي يشدّها إلى بعضها البعض الرابط العائلي وينتهي إلى الحضارة السومرية التي أنتجت بحسب دراساته أول ديمقراطية في التاريخ.
وفي إطار هذا البحث يصبح ضرورياً استعراض النظام القبلي في أثينا وانتقاله من الملكية إلى الأرستقراطية، وقد استمرت الثقافة الهلينية مسيطرة عهوداً طويلة حتى بعد نهاية حكم الإسكندر وتفكّك الأمبراطورية إلى ممالك صغيرة.
يأتي بعد أثينا دور روما في نظامها الملكي وتحوّلها إلى جمهورية، وفي صراعها ضد قرطاجة لانتزاع السيطرة على البحر المتوسط وعلى عالمه. ثم عن الإصلاحات التي تقدّم بها الإخوان غراشوس، وكانت تؤدي في كل مرة إلى ردة فعل عنيفة من فئة الأرستقراطية المتمثلة في مجلس الشيوخ.
الشورى
جاءت الدول العربية والإسلامية بتجربة الشورى في مجال التنظيم السياسي للسلطة العليا. وقد استعرض الحوراني نشوء الدولة مع تطوّر الدعوة الإسلامية من دعوة دينية-اجتماعية إلى حركة سياسية في خدمة الأهداف السامية والنبيلة للدين الجديد.
وكانت هذه الحركة في بدايتها أقرب إلى حزب سياسي سرّي مضطهد ومطارد من السلطة السائدة في مجتمع مكة آنذاك، وقد مارس الرسول وأصحابه كل الأشكال السلمية للسياسة من حوار وتفاوض ومحاولات إقناع بالتي هي أحسن. وبعد أن كتب لها النجاح في توحيد قبائل الجزيرة العربية بكاملها، ظهر مفهوم الشورى كصفة ملازمة للمؤمنين إلى جانب واجب الطاعة لله ولرسوله.
وتابع المؤلف بحثه فوضع تجربة الدولة العثمانية تحت المجهر باعتبارها الوريث الطبيعي للدولة العربية الإسلامية.
الثورة الفرنسيَّة
للوصول إلى الثورة الفرنسية، كان لا بد من إلقاء نظرة على أوروبا في القرون الوسطى، واستعراض العلاقة ما بين الدولة والكنيسة، وتقييم النظام الإقطاعي فيها، وظهور «المدن الحرة» التي حازت على استقلاليتها لقاء مبالغ مالية كانت تدفعها للسلطة.
ومع مجيء الثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان والمواطن العام 1789، الذي أكد أن «جهل حقوق الإنسان، أو نسيانها، أو احتقارها هي أسباب شقاء الشعب وفساد الحكومات»، تطوّر مفهوم الحرية وحركة الأفكار والآراء باعتبارها أحد أهمّ الحقوق الإنسانية.
في الوقت الذي كانت فيه بلدان القارة الأوروبية تتخبّط في ثورات وثورات مضادة، كانت إنكلترا تنعم بسلام اجتماعي تُحسد عليه لأن نظامها السياسي منذ أواخر القرن السابع عشر كان مصدر إلهام للعقول النيّرة في أوروبا وأميركا.
ويختم المؤلّف بأن الإنسان سيعيد صياغة الأطر التي تحيط به «بالشكل الأكثر تناسباً مع درجة الحرية التي وصل إليها وعيه لتحقيق مزيد من إنسانيّته وعالمه في مسيرة لا نهاية لها».
| 2761 | 900/1 | المكتبة الرئيسية | Available |
| 2764 | 900/1 | المكتبة الرئيسية | Available |
| 2763 | 900/1 | المكتبة الرئيسية | Available |
| 2762 | 900/1 | المكتبة الرئيسية | Available |
No other version available