كتاب
الزلزال
بدت البنية الزمنية لرواية “الزلزال” معقّدة رغم أنّها ترصد مجرى وعي شخصيّة واحدة، وذلك لأن المتابعات التي قام بها “بوالارواح” لكل ما اعترضه داخل مدينة قسنطينة جعلت الأزمنة تتداخل ويكثر فيها القفز والتقديم والتأخير وتنوع الصيغ الزمنية العامة. رغم أن الراوي قد استخدم الساعة العادية معيارا فان الزمن تدحرج في غفلة منه إلى ما وراء العادي من خلال تحولات الشخصيات وتنوع الأمكنة والضغوطات التي أحاطت بالأحداث، وصاحب التنوّع الزمني تعدد الأمكنة والملامح والروائح والأصوات التي رصدها المؤلف عبر منظار لم يمسكه بصفة مباشرة بل وظف له رقيبا استخرجه من عمق الشخصيات ذاتها، التي كان يستدرجها إلى فعل ذلك مرتكزا على هشاشة وجودها الخاص لصالح وجوده هو كمسيّر خفيّ لكل تصرفاتها التي جعلها تحصد نتائجها وحدها في النهاية وهذا تجلى خصوصا مع الشخصية الرئيسة في الرواية “بوالارواح” الذي استدرجه المؤلف إلى الجنون وبقية الشخصيات المحيطة به مثل “طاهر” النشال و”عيسى”، وقد اهتم الكاتب بتسيير هذه الشخصيات التي بدت للوهلة الأولى تنعم بحرية التعبير عن ذواتها كلّ شخصية على حدة منتقلا من واحدة إلى أخرى، محاولا دمجها في العالم الروائي الذي خططه لها، والمتمثل في زعزعة الراهن وتغييره والتوجّه به إلى هدف واحد ألا وهو الزلزلة التي ستقلب كل شيء وتغير الأمكنة تحت أقدام الشخصيات من الأسفل إلى الأعلى وبالعكس. من أجل هذا كثف المؤلف المناجاة لأنها أكثر الطرق جدوى في إبراز التطوّرات الدّاخلية للشخصيات وصلتها بالزمن.. ما يجعل الرواية لا تضم زمنا واحدا بل تحتوي أزمنة نفسية متعددة، لكل شخصية من شخصياتها زمنها النفسي المختلف عمقا ومأساوية وصلة بالحاضر الروائي، إلى حدّ جعل البنية الزمنية تتعقد وتتداخل فتكثر الاسترجاعات والخطابات الذاتية والأسئلة فيها. لكنّها مثلما أسلفنا من حيث الزمن الخارجي للرواية لم تتجاوز بضعة أيام بمقياس الساعة العادية: ينطلق الراوي من الحاضر، يصل “بوالارواح” مدينة قسنطينة ويبدأ تجواله فيها ثم يتدحرج تدريجيا نحو الماضي فتحيله الأماكن إلى أحداث وأزمنة وروائح وملامح عرفها سابقا وأصبحت مختلفة رغم احتفاظها بالأسماء نفسها. كما أن كلمة “زلزال” المتكررة على امتداد النص في حد ذاتها تسببت في هزات نفسية عنيفة كانت تسكن روح “بوالارواح” الذي كان يخطط لعملية انتحاره منذ أن فكر في الجسر وما تحته ومنذ أن أصبح يقارن بين السقوط والارتفاع ما يجعل القارئ يستشف سيطرة المكان على الشخصية وانتصاره عليها، والمكان هنا ينقسم إلى نوعين: الأمكنة الخارجية الجغرافية التي تعلن عن وجودها وتوهم بواقعيّتها، وأحيز أخرى نفسية تجسّد من خلال اللغة وعبرها تسكن الروح وتتمثل في الانعكاسات التي أثارتها التغيرات والتحركات على نفسية الشخصيات: التجوال الذي كان يقذف بهم من مكان إلى آخر، النظر الذي كان يثير العواطف، العلوّ والانحدار وأصوات الباعة الخ.. كلها حركات لغوية تفاعل معها “بوالارواح” إلى حدّ التأزّم ومحاولة السقوط في القاع، والانتحار.
8860 | 813,03/1054 | المكتبة الرئيسية | Available |
No other version available