كتاب
شطحات شيخ المقام
حتى ونحن نودع القرن العشرين ونقف قلقين أمام المعطيات الجديدة لعمليات القراءة والتأليف والتلقي.. كثيرون هم ألئك الذين يخافون اليوم مما سيحدث غدا للكتاب.. ومع ذلك فالمطمئنين على مستقبله ليسوا قليلين، وأنا منهم هيبة ذات بال ورسخ في لا وعينا صورة أكاد أشط شططا كبيرا عدا إياها باقية ما بقي الإنسان..
هاهو ذا الأديب اللألمع/ المشاغب/ المجدد/القلق/البحاثة/ العصبي/ المتواضع/ العنيف/ نبيل دادوة يطلع على ساحة الأدب الجزائري الفارغة إلا مما رحم ربك بكتابه هذا "شيخ المقام" وهو مجموعة نصوص عرفها القراء أو عرف القراء أغلبها في الصحف الوطنية وتجاوبوا معها ما كتب لهم أن يفعلوا.. وهاهم أولاء اليوم يجدون ما مر معهم متفرقا مشتتا مبسترا في حالة جيدة.. حالة تضع الوحدة والتناسق والكمال موضع التفرق والتشتت الابتسار..
"شيخ المقام" الذي يمتعنا أو يزعجنا بشطحاته( وهتان هما هدف كل أدب عظيم) هذا الشيخ شخصية لا تظهر جليا ولكنها شخصية قوية حاضرة في كل ما تقوله مع كل مقام عبر كل سطر ومن لبن طيات حروف كل كلمة.. هي شخصية لا نلبث أن نحبها ونألفها تبدو مطلعة على الحياة مفككة لها..والشيخ يعرب عن نفسه في كل مقام، وله مع كل مقام مقال فهو بليغ بطريقته.. أليس البلاغة أن تقول ما يجب ساعة يجب، بلى فالشيخ بليغ إذن لأنه سيسمعنا في هذه المقامات التي لن تقلقنا بطول ثقيل ممل ولن تخيبنا بقصر ظامئ مضل.. سيسمعنا إذن كل الكلام، الحكمة، الحلم، الشتم، القاذورات، التعريفات،آهات العذاب، أنات الأمل المفجوع، زغاريد السعادة (ما هي السعادة يا ترى؟.. سؤال لن تلبثوا ألا تجدوا له إجابة عند الشيخ.. فإن وجدتموها فهي إجابة كاذبة .. آه نسيت أن أقول أن الشيخ لا يدعي سعة المعرفة، ولا ينفي أنه يخطئ أكثر مما يصيب وهذا جانب لطيف آخر من الجوانب التي تقربنا من شخصية الشيخ المليئة بالمتناقضات ( مثلما هو القارئ والكاتب والناس أجمعين) ..
شيخ المقام.. يسحر بالعلاقة المثيرة بين الشيخ والمكان فالمكان منفر على العموم، وهو مكان يفيد الشيخ ((... أنا بعد ... أتنفس رغم عواصف المكان وتحيزه من صميم الحب/الحلم الذي اغتيل قبل الفجر)) [ مقام الرحيل]، فالرحيل في حد ذاته حكم على المكان، ثم إن الشيخ في آخر المقام لا يرحل إلا عبر الكلمات وهي رحلة تكرس سطوة المكان، أكثر مما تلغيها، ونجد الشيخ في مقام الراهن في وضع أكثر تكهربا من سابقه من حيث العلاقة بالمكان: (( مدينة تلعن نفسها بصوت خافت وتريد أن تتوب.. نجسة هي.. حائض هي.. مدينة حائض ومع ذلك عاهرة تبحث عن أي ذكر.. المهم نشر السموم وتطويل سلسلة المجانية)) والشيخ يلعن محترقا (( غصتي أنني لا أستطيع احتضان السماء )) [ مقام الحرقة] .. ثم يعلن في تنهد (( الكون يعيشونا ولا نعيشه)) [ مقام الحرقة].. ثم وهو يبحث عن أرضية صلبة (( تحتوي دنانير تمكننا من شراء تذكرة الرحيل إلى الطيران المجاني ..)) [ مقام الغصة].
وهذا النفس الغريب في الضيق بالمكان، جديد على أدب هذه البقعة من العالم فأبطال الرواية الجزائرية قرويون يتفاعلون إيجابيا مع مكانهم، وانتقادهم له نوع من الحنين إليه، وسكان المدن الذين ظهروا في هذه الروايات قرويون سابقون حديثو عهد بالمدينة، أو أبناء قرويين، يعشون في المدينة ومعها ما عاشوه في القرية في تلاحم يشبه النكاح، مع الأرض وخياراتها وأفراح خصبها ومآسي جذبها من موسم إلى آخر.. أما الرفض الكامل التام العنيف للمكان فهو جديد على أدبنا الجزائري، غن شخصية شيخ المقام هذه لا يزيد عمرها الأدبي على الشر سنوات على ابعد تقدير إننا نقرأ أدب سنة 2000باتم معنى الكلمة.
هاجس مركزي آخر يظهر لقارئ هذا الكتاب هو قلق الشيخ من ملابسات حدوث عملية التواصل بالآخر، فالشيخ يتحدث إلى مستمع غامض في أغلب الاحيان، وهو غير مهتم بتعريفنا بهذا المستمع الغامض ، كما انه غير واثق من تلقي مخاطبه هذه الخطابة التي هي الكتاب كله، فنجده يتكلم قليلا ثم يحاول تنبيه المستمع أو التأكد من وجوده (( غلى من يقدر على السماع ))[ مقام العذاب] (( وأنت أنت تختبئ وراء سبعة أبواب ومليون جدار ))[ مقام التوغل] (( آه .. يا لخضر.. لماذا؟ .. يا من مات وتكثفت روحه حولي )) [ مقام الراهن] (( يا أنت الكلام يموت حينما نهم باختصاره.. أيتها الوحيدة.. يا أنتِ.. أنتِ بذات من كل هذا الفراغ والسكون.. هل أحدثت ضجيجا؟ [ مقام الحرقة] (( أنت تهربين عني، ننحولين إلى سريان صوت )) [ مقام العشق] من المثير للدهشة أن يكثر هذا الأسلوب الندائي الاستفهامي وهذا التذكير بالمخاطب وهذا التشبيه بواسطة الضمائر.. وهنا أيضا نضع سطرا كبيرا حول طبيعة الشخصية التي قلنا أنها وليدة العام 2000 ووليدة نهاية القرن .. وليدة أدب جزائري ما في هذا شك، بعيدة عن الرومانسية السبعينية، والحنين الثمانيني، والوجودية الممسوخة عن وجوديات مهترئة في ديارها، والتي سادت مفترق الثمانينات والتسعينات..إن شيخ المقام ابن عصره، ابن بيئته، وشكواه من عسر الحديث هو انعكاس حضاري لأزمة التواصل التي نتجت عن عصر كان همه تبسيط التواصل وتأمين التوصيل.. كما لابد أن نصطدم برب أرباب "أولمبيا الأدب" هذا الزوس ZEUS الذي يسهر على مواضيع الأدب دوما إنه "الواقع" ..
إن الأدب الأصيل هو أدب يتعايش مع محيطه الذي لا يلبث أن يجد طريقه صوب النص الأدبي عن طريق مشاهدات الكاتب وملاحظاته للواقع وذكرياته غير الواعية.. تترجم هذه الأشياء لغويا كي تصير جزء نشطا من النص الأدبي وكلما تنوعت التفاصيل وكثرت وحملت معزوفات التناقض،ألحان النشاز ، وسمفونيات الغوص المفقد للأمل في هذه الصور الكلمات/فكلما كان الأدب هكذا كان خالدا .
((... ومنذ عشرين سنة وهو يسمي المسميات بأسمائها ومنذ عشرين سنة كانت الأسماء كلها تغادر..متى الاستقرار))[مقام الاستمرار] ((في وسط مشغول لا يتوقف خشية أن تضيع منه ساعات الراحة التي يشتغل ويجتهد كي يحصل عليها آخر الليل وأوله... البحث عن البقاء قد يصل إلى الشبقية ))[مقام التنبؤ] (( الزمن جامد المعدن... أتلقي الطعنات )) [ مقام العذاب] (( وأنا ألاحظ الأمور وأرصد كل شيء بعربية سليمة ـ شرط الأدب الوحيد في بلادي ـ حتى الكلام لا يجب أن يكون معبرا، مثل كل السلع التي تباع ولا تشترى...)) [ مقام التوغل ] (( أرضية تحتوي دنانير تمكننا من شراء قهوة وست خبزات وجريدة ...)) [ مقام الغصة]..
ويظهر من خلال هذه المقتطفات المختصرة والتي تغالب النفس مغالبة شديدة كي لا تسترسل في نفس شعري باهر، هذه اللغة المليئة بالألغام، لا تضع قدمك/عينك؟ على كلمة إلا وتتراقص التربة/الورقة تحتك استعدادا للانفجار المميز للغة الشعرية… كل كلمة تحيلك على المخفي على السري على المجهول، كل جملة تضحك عليك لأنك قرأتها في حين كان يجب عليك الدخول معها في سلسلة من المفوضات من أجل مقاربة معنى تعرفانه [ الجملة وأنت].. إنه لن يشبع رغبة الذهن في الاستقرار إلى مدلول واحد واضح ثابت مقيد بإطار معين.. ولكن هذا الجو المحرج المنبعث من الجملة الجملة وهو خاصية الشعر والتي يمكن تلخيصها في كلمة واحدة: التحولات وهو ما ينبعث من (( كل يوم يطير الملك الحزين..هو لا يضحك ولا يبتسم ليس خوفا من أن تظهر حقيقة صفرة أسنانه أو استهزائه بالواقع بل مواساة لذلك الذي أكله الزمن في طيات ورقة بيضاء كتب لها أن تمارس حب البقاء ...)) [ مقام التنبؤ] وهو النفس الذي يلفح صدورنا من تركيبة كهذه (( البحر ورآكم والبحر أمامكم والعدو أنتم... ليست إعادة صياغة إنما هي الروايات كاذبة... هكذا قال الكمبيوتر المركزي عند تحليل فخ الأندلس ألف وتسعمائة وخمسا وتسعين مرة.)) [ مقام البدء] قد يكون لهذه المقتبسات مفعول سلبي هو طمس نصوص ومقتطفات أخرى..إلا أنها فرضت نفسها عليٌ وأنا متشرف بذلك كوني أول قارئ لهذا الكتاب الذي قلنا انه يفتتح هذا القرن بطريقة رائعة ذات دلالة مثيرة ومقلقة (وهذا داب الأدب الأصيل: الروعة والترويع، الدلالات، الإثارة والإقلاق) ..
قد يكون الفضل الوحيد ـ الذي لم نذكره حتى الآن ـ لكتاب مثل هذا هو إخراج شاب مغرم بالحرف وباللغة العربية وبنكاح الكلام لكتاب يد باكورة الأعمال ( وإن كان اسمه غني عن كل تعريف بسبب كونه لم يغب عن الساحة الأدبية/ الصحافية منذ عشر سنوات ولو لشهر واحد وبسبب كونه شغل منصب رئيس تحرير إحدى الجريدتين المختصتين الوحدتين اللتين صدرتا في الجزائر منذ أكثر من عشر سنوات ..مع الملاحظة المهمة التي هي أنه لا توجد في الجزائر ولو كراسة ثقافية مختصة واحدة في الوقت الحالي...
أعتقد أني اعترضت سبيل القارئ " شطحات شيخ المقام" أكثر مما يطيق الاحتمال.. فلأتنح الآن عن سبيله وحي على الكتاب.. حي على الكتاب.
9253 | 813/782 | المكتبة الرئيسية | Available |
9490 | 813/782 | المكتبة الرئيسية | Available |
8610 | 813/782 | المكتبة الرئيسية | Available |
No other version available