كتاب
التغير الإجتماعي و الثقافي
يعتبر التغير الاجتماعي من المفاهيم التي احتلت مكانة محورية في بناء النظرية السوسيولوجية المعاصرة بنماذجها المتباينة، حيث ترجع أهمية هذه المكانة إلى أبعاد تاريخية ومعاصرة، إذ يذكر تاريخ النظرية السوسيولوجية أنه منذ قيام فكر التنوير ظهرت الدعوة الجادة من أجل التطور والتقدم. في هذه المرحلة ظهرت تيارات فكرية عديدة، بعضها حاول تشخيص التطور الاجتماعي من حيث عوامله أو قوته الدافعة، أو مساراته، أو طبيعته، أو غاياته التي ينشدها. بينما نظر البعض الآخر إلى حركة المجتمع في التاريخ باعتبارها سعياً حثيثاً إلى المثال الذي ينبغي أن يكون. بيد أنه أياً كانت طبيعة التيارات التي انبثقت عن التنوير، والتي انصب اهتمامها بالتطور أو التقدم فإنه قد توفر لديها إيمان راسخ بأن حركة المجتمع الإنسان في التاريخ تستهدف توسيع نطاق كل ما هو إنساني. إذ تؤدي هذه الحركة إلى اتساع نطاق الحرية، والفكر العقلاني، والمعرفة العلمية، وسيطرة الإنسان على الطبيعة، وهو الأمر الذي افترض ضمنياً أن التغير والتغيير يكون عادة في صالح الإنسان.
ولقد تأكد نفس الاهتمام خلال المرحلة الكلاسيكية من تاريخ النظرية السوسيولوجية. وإذا كانت مرحلة التنوير قد حاولت إبراز مضمون التقدم والتطور والتغير وتأكيد أهميته، فإن المرحلة الكلاسيكية حاولت أن تكون بحثاً علمياً موضوعياً في عوامل التغير وطبيعته ونتائجه. بعضها كالنظرية الماركسية أكدت أن وسائل الإنتاج – العنصر الجوهري في البناء الاقتصادي للمجتمع- هي التي تشكل دائماً قوى التغير الدافعة، وأن هذا التغير لا بد أن يكون تاريخياً يتولى نفي احتكار الأقلية لتأكيد سيطرة الأغلبية على رأس المال الاجتماعي اتساقا ومنطق المنهج الجدلي. بينما يرى "دوركايم" أن التغير كان دائماً بين نماذج بنائية ثابتة، أحدهما يشخص حالة مجتمعات ما قبل الصناعة بينما يجسد الآخر تفاعلات ما بعدها. والتغير بينها يشير دائماً إلى حالة نمطية متكررة، تكمن قوتها الدافعة في التناقض بين زيادة السكان ومحدودية الموارد.
ولا يختلف "ماكس فيبر" كثيراً عن "دوركايم"، الذي رأى أن هناك مجتمعات استطاعت التغير والانطلاق من الإطار التقليدي إلى الإطار الرأسمالي الحديث. وأن القوة الدافعة للتغير كانت تكمن دائماً بالنسبة لـ"ماكس فيبر" في ظهور البيروقراطية، وفاعلية قيم الديانة البروتستانتية. وبذلك طرح ماكس فيبر طاقة دافعة للتغير مضادة لتلك التي قدمها كارل ماركس.
على خلاف ذلك نظر "فلفريدو باريتو" إلى كل النظريات السابقة- التي حاولت فهم المجتمع والتغير الاجتماعي- باعتبارها مشتقات لرواسب كامنة في عمق الذات الإنسانية، قادرة على تحريك الإنسان والمجتمع من داخله. وإذا كانت الرواسب ثابتة لا تتغير، فإن دورة الصفوة أو دورة التغير ثابتة لا تتغير أيضاً.
استحقت هذه المرحلة الكلاسيكية وصفها بأنها مرحلة النظريات العاملية، أي التي تنظر إلى الحقيقة من زاوية واحدة بعضها يغفل الزوايا الأخرى تماماً، بينما يعطيها البعض الآخر قدراً من الاعتبار. غير أن هذه المرحلة أفادت النظرية السوسيولوجية في مراحلها التالية ، لأن كلا منها جمع قدراً كبيراً من المعطيات التي تؤكد على فاعلية العامل الذي تراه متغيراً مستقلاً .
وبعد المرحلة الكلاسيكية تأتي المرحلة الحديثة والمعاصرة في تاريخ النظرية السوسيولوجية. ولقد تميزت هذه المرحلة باختلاف رؤيتها للتغير الاجتماعي من خلال تأكيدها على جماعية العوامل والتفاعل. فقد أكدت على أنه من الممكن لأي من العوامل – العناصر – المشكلة لبناء المجتمع أن تلعب دورها باعتبارها قوة دافعة للتغير الاجتماعي. كما أكدت أيضاً على أنه من الممكن أن تكون هناك عوامل مثيرة للتغير الاجتماعي، بينما أخرى قادرة على تأكيد استمرار تفاعلاته .
طرحت هذه المرحلة أيضاً أفكاراً أكثر دقة فيما يتعلق باتجاهات التغير الاجتماعي: هل هو تغير من الداخل بفعل التوتر الذي قد ينشأ بين العناصر المكونة للبناء، أم أنه تغير جاء من الخارج فنشر القلق والتوتر في بناء كان ساكناً، أم أن التغير هو عبارة عن تفاعل جدلي بين مثير خارجي واستجابة داخلية. بالإضافة إلى ذلك فقد قدمت نظريات هذه المرحلة أفكاراً بشأن نطاق التغير: هل التغير يكون عادة كلياً إذا طرأ على البناء فلا بد أن يتغير الأخير بكامله استجابة له، أم أنه من الممكن أن يكون التغير جزئياً باستطاعتنا تحديد نطاقه.
ناقشت نظريات هذه المرحلة أيضاً مدى ودرجة التغير، هل التغيرات التي يشهدها عالمنا بعيدة المدى أم قصيرة المدى، أم أن الثانية مستوعبة بالضرورة في الأولى. من ناحية ثانية ناقشت هذه النظريات درجة التغير: هل التغير المتواتر عادة في المجتمعات هو تغير ثوري راديكالي أم تدريجي تلاؤمي تكيفي، أم أن هذه الرؤية المستقطبة تعسفية وإن هناك علاقة ما بين نموذجي التغير .
من هنا نستطيع بحق أن نقول بأن النظرية السوسيولوجية المعاصرة، هي بالأساس نظرية في التغير الاجتماعي. وأننا إذا كنا ننتمي إلى العالم الثالث ، عالم المجتمعات النامية والمتغيرة ، فإن ذلك يفرض علينا من منطق إنساني ووطني أن نسعى كباحثين لفهم التغير الاجتماعي وإدراك متضمناته، وإنه إذا كان علمنا يستحق مكانته، فإن عليه أن يكون علماً في التغير الاجتماعي .
استناداً إلى هذا الإدراك حاولنا تقديم مؤلف في التغير الاجتماعي، يتناول بالمناقشة والتحليل مختلف مفاهيمه، وعوامله وتفاعلاته الواقعية. وارتباطاً بذلك ضم هذا المؤلف قسمين أحدهما نظري والآخر تطبيقي ، حاولنا من خلالهما إلقاء الضوء على مختلف المواقف النظرية فيما يتعلق بالتغير الاجتماعي، إلى جانب التحقق من مدى صدق القضايا النظرية من خلال استكشاف التفاعلات الواقعية تطبيقاً.
5474 | 303,4/115 | المكتبة الرئيسية | Available |
5471 | 303,4/115 | المكتبة الرئيسية | Available |
5473 | 303,4/115 | المكتبة الرئيسية | Available |
5472 | 303,4/115 | المكتبة الرئيسية | Available |
No other version available