كتاب
القواعد النورانية الفقهية
[ مُختصر تلخيصيّ مُنتخب من القواعد النورانية الفقهية]
فيما يلي ذكر لأبرز الأفكار التي ذكرها الإمام ابن تيمة، مع أبرز الموازنات الخلافيات التي ضمنها كتابه القواعد الفقهية النورانية، ويُمكن أن تكون هذه المقتطفات أهم ما تحدث به الإمام ابن تيمية في قواعده، إذ إنّها تُساعد من يريد التعرف على فكره القواعدي الفقهي، وتُقرّب القواعد النورانية لمن يريد أخذ نبذة عنها بشكل مختصر وموجز، بغير إخلال – قدر إمكاني – خاصة أنّ من عادات الإمام ابن تيمية في شتّى كتبه الاستطراد والإطناب والإسهاب؛ وقد يخرج عمّا كان قد تحدث عنه لمناسبة فرعيّة ويذكر بعدها الكثير من متعلقاتها حتى يذكر أصولها الكبرى؛ ثمّ يعاود الرجوع مرّة أخرى لكلامه السابق؛ ولهذا يحتاج المرء ليعود مرّة أخرى لما توقف عنده الإمام ابن تيمية ويربطه بما يُحاول استكماله مما توقف عنده ثم تفرّع عنه.
ومن باب التيسير على القارئ والتوثيق للمعلومة؛ سأذكر كلام الإمام مع رقم الصفحة؛ ليكون عوناً على الرجوع إليها مباشرة:
في مستهلّ كتابه أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية وسطية فقهاء أهل الحديث العراقيين والحجازيين في الأشربة والأطعمة. [ص54].
وذكر أنّ الحجازيين من أهل المدينة يُحرّمون من الأشربة كل مسكر بخلاف الأطعمة، فلا يغلب عليهم التحريم فيها فيبيحون الطيور وإن كانت ذات مخالب.[ص45]
وأنّ العراقيين ليست الخمر عندهم إلا من العنب، ولا يحرمون القليل من المسكر إلا أن يكون خمراً أو أن يكون من نبيذ التمر أو الزبيب ولكنهم في الأطعمة في غاية التحريم حتى أنهم حرموا الضب. [ص55]
وأهل الحديث أخذوا بقول أهل المدينة في الأشربة [ص55+ 56]
وذكر أن فقهاء الحديث أخذوا في الأطعمة بقول أهل الكوفة لصحة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. [ص57]
وأن فقهاء الحديث نقصوا على ما حرمه أهل الكوفة من الأطعمة وزادوا على أهل المدينة في الأشربة لأن النصوص الدالة على تحريم الأشربة المسكرة أكثر من النصوص الدالة على تحريم الأطعمة. [ص60]
وبيّن أن أهل المدينة لهم سلف من الصحابة والتابعين في استحلال ما أحلوه أكثر من سلف أهل الكوفة في استحلال المسكر. [ص60]
وأن المفاسد الناشئة من المسكر أعظم من مفاسد خبائث الأطعمة، ولهذا سميت الخمر أم الخبائث. [ص60]
والإمام أحمد وغيره من علماء الحديث زادوا في متابعة السنة على غيرهم بأن أمروا بما أمر الله مما يزيل ضرر بعض المباحات مثل لحوم الإبل بأنها حلال بالكتاب والسنة والإجماع، لكن فيها من القوة الشيطانية ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أنها خلقت من الجن [ص63] فأمر الإمام أحمد بالوضوء من الأمر العارض من الشيطان [ص64]
وذكر ابن تيمية أنّ من توضأ من لحومها اندفع عنه ما يصيب المدمن لأكلها من غير وضوء كالأعراب من الحقد وقسوة القلب، لأن السنة جاءت بتجنب الخبائث الجسمانية والتطهر منها فكذلك جاءت بتجنب الخبائث الروحية والتطهر منها، حتى قال : ( إذا قام أحدكم من الليل فليستنشق بمنخريه من الماء فإن الشيطان يبيت على خيشومه) وقال: (إذا قام أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) فعلل الأمر بالغسل بمبيت الشيطان على خيشومه فعلم أن ذلك سبب للطهارة غير النجاسة الظاهرة فلا يستبعد أن يكون هو السبب لغسل يد القائم من نوم الليل.[ص: 68]
فكما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قال: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) وقد روى عنه أنه لما ارتحل عن المكان الذي ناموا فيه عن صلاة الفجر قال (إنه مكان حضرنا في الشيطان) فعلل عليه الصلاة والسلام الأماكن بالأرواح الخبيثة كما يعلل بالأجسام الخبيثة وبهذا يقول أحمد وغيره من فقهاء الحديث.
وذكر أن أحمد كان يعجب ممن يدع حديث لحوم الإبل مع صحته التي لا شك فيها وعدم المُعارض لها، ويتوضأ من مس الذكر مع تعارض الأحاديث فيه، وأن أسانيدها ليست كأحاديث الإبل ، ولذلك أعرض عنها الشيخان وإن كان أحمد على المشهور عنه يرجح أحاديث الوضوء منه لكن غرضه أن الوضوء من لحوم الإبل أقوى حجة من الوضوء من مس الذكر.[ ص73].
وذكر ابن تيمية أنه أظهر في القياس منه فإن تأثير المخالطة أعظم من تأثير الملامسة ولهذا كل نجس محرم الأكل وليس كل محرم الأكل نجساً. [ص73 ]
كما ذكر أصلاً آخر توسط فيه أهل فقهاء الحديث فقد بيّن أنّ الكوفيين عرف تخيفهم في العفو عن النجاسة فيعفون عن المُغلّظة قدر الدرهم البغلي، وعن المخففة عن ربع المحل، خلافاً للشافعي الذي لا يعفو عن النجاسات إلا عن أثر الاستنجاء وونيم الذباب. [ص 76]
ومالك متوسط في نوع النجاسة وقدرها وكذا الإمام أحمد؛ فإنه متوسط في النجاسات فلا ينجس الأرواث والأبوال ويعفو عن اليسير من النجاسات ، التي يشق الاحتراز عنها، وهو مع ذلك يوجب اجتناب النجاسة في الصلاة في الجملة ولم يختلف قوله كما اختلف أصحاب مالك.
وذكر أصلاً آخر في إزالة النجاسة فمذهب أبي حنيفة تزال بكل من المائعات والجامدات، والشافعي لا يرى إزالتها إلا بالماء حتى ما يصيب أسفل الخف والحذاء، لا يجزئ فيه إلا الغسل بالماء وحتى نجاسة الأرض، ومذهب أحمد متوسط فكل ما جاءت به السنة قال به. [ص 78]
وقد علّق ابن تيمية على ذلك بقوله : يجب التوسط في النجاسات فإن التشديد في النجاسات جنساً وقدراً هو دين اليهود والتساهل هو دين النصارى والإسلام دين الوسط. [ص 80]
ثم ذكر أصلاً آخر في اختلاط الحلال بالحرام كاختلاط المائع الطاهر بالنجس، فالكوفيين يتشددون لأنهم ألحقوا الماء بسائر المائعات والنجاسة إذا وقعت في مائع لم يمكن استعماله إلا باستعمال الخبيث فيحرم الجميع مع أن تنجيس المائع غير الماء الآثار فيه قليلة. [ص80]
وبإزائهم مالك وغيره فإنهم في المشهور لا ينجسون الماء إلا بالتغير، ولا يمنعون من المستعمل ولا غيره مبالغة في طهورية الماء. [ص 82]
مع فرقهم بينه وبين غيره من المائعات، ولأحمد قول كمذهبهم لكن المشهور عنه التوسط بالفرق بين قليله وكثيره كقول الشافعي.
ثمّ بينّ أنّ أهل فقهاء الحديث من إعمالهم الأحاديث في طهارة الأحداث التي هي الوضوء والغسل أن مذهبهم فيها اشتمل فيهما من السنن على ما لا يوجد لغيرهم، وذكر من ذلك مثالاً مثل المسح على الخفين وغيرهما من اللباس والحوائل [ص82].
لهذا قال أنّه : حين يتأمل ذلك الشخص يعلم فضل فقهاء الحديث على غيرهم مع أن القياس يقتضي ذلك اقتضاء ظاهراً وإنما توقف عنه من توقف من الفقهاء لأنهم قالوا بما بلغهم من الأثر وجبنوا عن القياس ورعاً. [ص 83 ]
ثم عقد فصلاً للحديث عن الصلاة وذكر أن فقهاء الحديث استعملوا في هذا الباب جميع النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم [ص89].
وذكر أن أحمد له أصل مستمر في جميع صفات العبادات أقوالها وأفعالها يستحسن كل ما ثبت عن النبي من غير كرامة لشيء منه مع علمه بذلك واختياره للتعصب أو تسويته بُين كما يجوز القراءة بكل قراءة ثابتة وإن كان قد اختار بعض القراءة مثل أنواع الأذان والإقامة وأنواع التشهدات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كتشهد ابن مسعود وأبي موسى وابن عباس، أنواع الاستفتاح والاستعاذة المأثورة إن اختار بعضها. [ص89]
وذكر ابن تيمية عدة مواطن من ذلك: كمواضع رفع اليدين في الصلاة، ومحل وضعهما بعد الرفع، وصفات التحميد المشروع بعد التسميع، وصفات الصلاة على النبي وإن اختار بعضها، وأنواع صلاة الخوف حيث يجوز كل ما فعله النبي من غير كراهة، وأنواع التكبيرات للعيدين يجوز كل مأثور وإن استحب بعضه، ومنها التكبير على الجنائز يجوز على المشهور التربيع والتحميد وإن اختار التربيع. [ص100،ص101]، وأما بقية الفقهاء فيختارون بعض ذلك ويكرهون بعضه [ص101]
ثمّ ركز على قضية خطر التعصب المذهبي في الاختيار الفقهي بعدما وضَّح أن أبا حنيفة يكره الترجيع في الأذان، والشافعي يكره الترجيع في الأذان، وكذا يكره شفع الإقامة، ومنهم من يكره إفراد الإقامة كالمالكية... فقال ابن تيمية عقب ذلك: آل الأمر بالاتباع إلى نوع جاهلية فصاروا يقتتلون في بعض بلاد المشرق على ذلك حمية الجاهلية مع أنّ الجميع قد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. [ص101]
وأعقب ذلك بمسألة البسملة في الصلاة واضطراب الناس فيها نفياً وإثباتاً في كونها آية من القرآن وفي قراءتها، وصنف من الطرفين مصنفات يظهر في بعض كلامهما نوع جهل وظلم، مع أن الخطب فيها يسير. [ص102]
وذكر أنّ التعصب لهذه المسائل ونحوها من شعائر الفرقة والاختلاف الذي نهينا عنه، إذ الداعي لذلك هو ترجيح الشعائر المفرقة بين الأمة، وإلا فهذه المسائل من أخف مسائل الخلاف لولا ما يدعو إليه الشيطان من إظهار شعار الفرقة.[ص102]
وأشار بعد ذلك أن أكثر فقهاء الحديث وأهل الرأي توسطوا فقالوا عن البسملة أن كتابتها في المصحف تقتضي أنها من القرآن لكن لا يقتضي ذلك أنها من السورة بل تكون آية مفردة أنزلت أول كل سورة [ص103]
وذكر أن جماهير فقهاء أهل الحديث وفقهاء أهل الرأي يقرؤونها سراً لكن ذكر مزية أن أحمد يستعمل ما روي عن الصحابة في هذا الباب فيستحب الجهر بها لمصلحة راجحة حتى أنه نص على أن من صلى بالمدينة يجهر بها. [ص 105]
وذكر أن للرجل أن يقصد إلى تأليف هذه القلوب بترك هذه المستحبات لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا كما ترك النبي تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب. [ص106].
وذكر فائدة نفيسة فقال: والاعتدال في كل شيء استعمال الآثار على وجهها. [ص107]
وقد ذكر أنّ الإمام أحمد أصله في الأحاديث إذا تعارضت في قضيتين متشابهتين غير متماثلتين فإنه يستعمل كل حديث على وجهه ولا يرد أحدهما بالآخر. [ص 117 ]
وأوضح أن نفس الواجبات للصلاة تسقط بالعذر فكذلك الواجبات في الجماعات ونحوها فقد هدى لما جاءت به السنة من التوسط بين إهمال بعض واجبات الشريعة رأساً كما قد يبتلى به بعضهم، وبين الإسراف في ذلك الجانب، حتى يُفضي إلى ترك غيره من الواجبات التي هي أوكد منه عند العجز عنه هو الوسط بين الأمرين، وعلى هذا الأصل تُبنى مسائل الهجرة والعذر التي هي أصل مسألة الإمامة بحيث لا يفعل إلا ما تسع القدرة. [ص119]
وبيَّن أنّ الغرض التنبيه على قواعد الشريعة التي تعرفها القلوب الصحيحة التي دل عليها قوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) وقوله صلى الله عليه وسلم (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وأنه إذا تعذر جميع الواجبين قدم راجحهما وسقط الآخر بالعجز الشرعي. [ص125 ]
كما ذكر القنوت وأن الناس فيه طرفان ووسط منهم من لا يرى القنوت إلا قبل الركوع ومنهم من لا يراه إلا بعده، وأما فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره، فيجوزون كلا الأمرين لمجيء السنة الصحيحة بهما، وإن كانوا يختارون القنوت بعده؛ لأنه أكثر وأقيس؛ لأن سماع الدعاء مناسب لقول العبد : (سمع الله لمن حمده). [ص131].
وفي مسألة القنوت ذكر أن فقهاء الحديث كأحمد توسطوا فقالوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت للنوازل التي نزلت به من العدو في قتل أصحابه أو حبسهم، وأنّه ترك القنوت بعد ذلك لزوال ذلك السبب.
قال ابن تيمية: وليس الترك نسخاً فإن الناسخ لابد أن ينافي المنسوخ وإذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أمراً لحاجة ثم تركه لزوالها لم يكن ذلك نسخاً بل لو تركه تركاً مطلقاً لكان يدل على جواز الفعل والترك لا على النهي عن الفعل، فهذا القول أوسط الأقوال أن القنوت مشروع غير منسوخ لكنه مشروع للحاجة النازلة لا سنة راتبة [ص138].
ثمّ ذكر أصلاً في الواجبات والمستحبات وأن كل واحد من الواجبات والمستحبات الراتبة يسقط بالعذر العارض بحيث لا يبقى لا واجباً ولا مستحباً كما سقط بالسفر والمرض والخوف مثير من الواجبات والمستحبات وكذلك أيضاً قد يجب أو يستحب للأسباب العارضة ما لا يكون واجباً ولا مستحباً راتباً. [ص139]
فالعبادات في ثبوتها وسقوطها تنقسم إلى راتبة وعارضة وسواء في ذلك ثبوت الوجوب أو الاستحباب أو سقوطه وإنما تغلط الأذهان من حيث تجعل العارض راتباً أو تجعل الراتب لا يتغير بحال، ومن اهتدى للفرق بين المشروعات الراتبة والعارضة انحلت عنه انحلالاً كثيراً. [ص139 ].
ثم ذكر القراءة خلف الإمام وأنّ الناس فيها طرفان ووسط منهم من يكره القراءة خلف الإمام حتى يبلغ بها بعضهم للتحريم سواء ذلك في صلاة السر والجهر وهذا هو الغالب على أهل الكوفة ومن اتبعهم كأصحاب أبي حنيفة ، ومنهم من يؤكد القراءة خلف الإمام حتى يوجب قراءة الفاتحة وإن سمع الإمام يقرأ وهذا هو الجديد من قولي الشافعي وقول طائفة معه، ومنهم من يؤكد القراءة خلف الإمام حتى يوجب قراءة الفاتحة، وإن سمع الإمام يقرأ وهذا هو الجديد من قولي الشافعي ومنهم من يأمر بالقراءة في صلاة السر وفي حال سكتات الإمام في صلاة الجهر وللبعيد الذي لا يسمع الإمام، وأما القريب الذي يسمع قراءة الإمام فيأمرونه بالإنصات لقراءة إمامه، إقامة للاستماع مقام التلاوة وهذا قول الجمهور كمالك وأحمد وغيرهم من فقهاء الأمصار وفقهاء الآثار وعليه يدل عمل أكثر الصحابة وتتفق عليه أكثر الأحاديث. [ص140 ]
وتحدث ابن تيمية أن الصلوات في الأحوال العارضة كالصلاة المكتوبة في الخوف والمرض والسفر ومثل الصلاة لدفع البلاء عند أسبابه كصلوات الآيات في الكسوف ونحوه أو الصلاة لاستجلاب النعماء كصلاة الاستسقاء ومثل الصلاة على الجنازة... ففقهاء الحديث كأحمد وغيره، متبعون لعامة الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه في هذا الباب؛ فيُجوّزون في صلاة الخوف جميع الأنواع المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويختارون قصر الصلاة في السفر، اتباعاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.[ ص 143]
ويُجوّزون جميع الأنواع الثابتة في صلاة الكشوف ، ويجوزون في الاستسقاء الخروج إلى الصحراء لصلاة الاستسقاء والدعاء والخروج والدعاء بلا صلاة .[ ص145]
وأما الجنازة فاختيارهم أنه يُكبر عليه أربعاً لأن الرسول والصحابة كانوا يفعلونه غالباً ويجوز عن أحمد التخميس في التكبير وكذا التسبيع لوروده في الأثر.[ ص147].
ثمّ ذكر الإمام ابن تيمية أصلاً ثانياً في الزكاة.
فذكر أنّ فقهاء الحديث متبعون فيها لسنة النبي وخلفائه آخذين بأوسط الأقوال وأحسنها في السائمة [ص150]
وذكر عدّة أقوال توسط فيها أحمد وفقهاء الحديث منها أن أحمد لم يُوجب الزكاة في الخضروات لما في الترك من عمل الصحابة وخلفائه ولكن يوجبها في الحبوب والثمار التي تُدخر [ص153].
وقد وضّح أن فقهاء الحديث يجمعون بين العشر والخراج لأن العشر حق الزرع والخراج حق الأرض. [ص 154]
وبيّن أنه لا يجزئ إخراج القيمة في الزكاة إلا عند الحاجة ، مثل من يجب عليه شاة في الإبل وليست عنده خلافاً لمن قال أنه مجزئ في كل حال كقول أبي حنيفة، وقول من قال لا يجزئ بحال كقول الشافعي. [ص159].
ثم قال عقب ذلك: وهذا القول أعدل الأقوال كما ذكرنا مثله في الصلاة فإن الأدلة الموجبة للعين نصاً وقياساً كسائر أدلة الوجوب، ومعلوم أن مصلحة وجوب العين قد يعارضها أحياناً ما في القيمة من المصلحة الراجحة وفي العين من المشقة المنتفية شرعاً. [ص159 – 160]
ثمّ تحدث عن الأصل الثالث فالصيام .
وذكر اختلاف الفقهاء في تبييت النية للصيام، فمنهم من أوجبه في كل صوم فرض أو نفل بنية قبل الزوال ، وهو قول أبي حنيفة، ومنهم من قال لا يجزئ الصوم إلا مبيتاً من الليل فرضاً أو نفلاً، والقول الثالث لا يجزئ التبييت بنية إلا للفرض، كما دل عليه حديث حفصة وابن عمر؛ لأن جميع الزمان يجب فيه الصوم والنية لا تنعطف على الماضي وأما النفل فيجزئ بنية من النهار كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : ( إني إذن صائم)كما أن الصلاة المكتوبة يجب فيها من الأركان كالقيام والاستقرار على الأرض ما لا يجب في التطوع توسيعاً من الله على عباده طرق التطوع .[ص162]
ثمّ عقد فصلاً في الحج وأنّ فقهاء الحديث كأحمد وغيره أخذوا بسنته صلى الله عليه وسلم في ذلك كله وإن كان منهم ومن غيرهم من قد يُخالف بعض ذلك بتأويل تخفى عليه فيه السنة. [ص177] وبيّن خطأ بعض أصحاب الشافعي ممن قالوا أن من سعى بين الصفا والمروة بأن يصلي ركعتين بعد السعي على المروة قياساً على الصلاة بعد الطواف ولهذا أنكر ذلك سائر العلماء من أصحاب الشافعي وسائر الطوائف، ورأوا أن هذه بدعة ظاهرة القبح [ص 189]
وقال : إن السنة مضت بأن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه طافوا وصلوا كما ذكر الله الطواف والصلاة، ثم سعوا ولم يصلوا عقب السعي، فاستحباب الصلاة عقب السعي كاستحبابها عند الجمرات وبالموقف بعرفات أو جعل الفجر أربعاً قياساً على الظهر.[ ص189]
ثمّ ذكّر أنّ الترك الراتب سنة ، كما أن الفعل الراتب سنة، بخلاف ما تركه لعد مقتض أو فوات شرط أو وجود مانع وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال الموانع : ما دلت الشريعة على فعله حينئذٍ كجمع القرآن في المصحف، وجمع الناس في التراويح على إمام واحد، وغير ذلك مما يحتاج إليه في الدين بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به، وإنما تركه صلى الله عليه وسلم لفوات شرطه، أو وجود مانع، فأما ما تركه من جنس العبادات مع أنه لو كان مشروعاً لفعله أو أذن فيه، ولفعله الخلفاء بعده والصحابة فيجب القطع بأنه بدعة وضلالة، ويتمنع القياس في مثله، وإن جاز القياس في النوع الأول ، وهو مثل قياس صلاة العيدين والاستسقاء والكسوف على الصلوات الخمس في أن يجعل لها أذان وإقامة كما فعله بعض المروانية في العيدين، وقياس حجرته ونحوها من مقابر الأنبياء على بيت الله في الاستلام والتقبيل من الأقيسة التي تشبه قياس الذين قالوا: (إنما البيع مثل الربا) [ص189+190+191]
ثم ذكر فصلاً في العقود من المعاملات المالية والنكاحية، وقال أنّ فيه" قواعد جامعة عظيمة المنفعة [ص 195] فإن ذلك فيها أيسر منه في العبادات وبيّن أن الفقهاء فيها على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
الأصل في العقود أنها لا تصح إلا بالصيغ والعبارات التي قد يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب والقبول، سواء البيع أو الإجارة أو الهبة أو النكاح والوقف والعتق وغير ذلك، وهو ظاهر قول الشافعي، وهو قول في مذهب أحمد، يكون تارة رواية منصوصة في بعض المسائل، كالبيع، والوقف، ويكون تارة : رواية مخرجة كالهبة والإجارة.
والأصل في العقود التراضي المذكور في قوله تعالى : ( إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم) وقوله تعالى : (فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً) والمعاني التي في النفس لا تنضبط إلا بالألفاظ التي جعلت لإبانة ما في القلب إذ الأفعال من المعاطاة ونحوها : تحتمل وجوهاً كثيرة ولأن العقود من جنس الأقوال فهي في المعاملات كالذكر الدعاء في العبادات [ص196 – 197]
والقول الثاني:
أنها تصح بالأفعال فمما كثر عقده بالأفعال كالمبيعات المحقرات وكالوقف في مثل من بنى مسجداً وأذن للناس الصلاة فيه، أو سبّل أرضاً لله ، وهذا هو الغالب على أصول أبي حنيفة وهو قول في مذهب أحمد ، ووجه في مذهب الشافعي بخلاف المعاطاة في الأموال الجليلة، فإنه لا حاجة إليه ولم يجر به العرف.
والقول الثالث:
العقود تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل وكل ما عده الناس بيعاً أو إجارة فهو بيع أو إجارة فإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصّيغ والأفعال، وليس لذلك حد مستقر لا في شرع ولا في لغة بل يتنوع بتنوع اصطلاح الناس، ولا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات في المعاملات ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم إذا كان ما تعاقدوا به دالا على مقصودهم.
وإن كان قد يستحب بعض الصفات وهذا هو الغالب على أصول مالك وظاهر مذهب أحمد، ولهذا يصحح في مذهبه بيع المعاطاة مطلقاً.
ولهذا فكل ما عده الناس هبة فهو هبة ، والإجارة كذلك والطلاق كذلك ولا يقتصر على القول [ص200]...فأما التزام لفظ مخصوص فليس فيه أثر ولا نظر ، وهذه القاعدة الجامعة التي ذكرناها من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل هي التي تدل عليه أصول الشريعة وهي التي تعرفها القلوب. [ص 208]
وذكر الإمام ابن تيمية أنّه يكتفى بالتراضي في البيع في قوله تعالى : (إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم ) وبطيب النفس في التبرع في قوله تعالى (فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً) فتلك الآية في جنس المعاوضات ، وهذه الآية في جنس التبرعات... ونحن نعلم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم أنهم يعلمون التراضي وطيب النفس بطرق متعددة من الأقوال والأفعال. [ص209].
ثمّ نبّه الإمام على قضيّة نفسية يقع بها بعض المتفقهة حيث قال : وبعض الناس قد يحمله اللدد في نصره لقول معين على أن يجحد ما يعلمه الناس من التراضي وطيب النفس فلا عبرة بجحد مثل هذا فإن جحد الضروريات قد يقع كثيراً عن مواطأة وتلقين في الأخبار والمذاهب. [ص210].
ويكمل كلامه بقوله : فإن تسمية أهل العرف من العرب هذه المعاقدات بيعاً دليل على أنها في لغتهم تسمى بيعاً والأصل: بقاء اللغة وتقريرها لا نقلها وتغييرها؛ فإذا لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة: كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، فما سموه بيعاً فهو بيع وما سموه هبة فهو هبة. [ص211]
ثم ذكر أن الأصل في العادات العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه وإلا دخلنا في معنى قوله (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراراً وحلالاً) [ص212].
كما نبّه على قاعدة أن الشريعة جاءت في العادات بالآداب الحسنة، فحرّمت منها ما فيه فساد، وأوجبت ما لابد منه، وكرهت ما لا ينبغي، واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها. [ص213]
ويزيد في بيانه انتصاراً فيقول: وأما السنة والإجماع فمن تتبع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع المبايعات والمؤاجرات والتبرعات علم ضرورة أنهم لم يكونوا يلتزمون الصيغة من الطرفين. [ص214]
ثمّ قسّم أنواع التصرفات إلى جنسين: عقود وقبوض كما جمعها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : (رحم الله عبداً كان سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا قضى سمحاً إذا اقتضى) فالمقصود من العقود إنما هو القبض والاستيفاء ثم التقابض وفاء بالعقود بمنزلة فعل المأمور به في الشرعيات، والقبض ينقسم إلى صحيح وفاسد كالعقد. [ص217].
يواصل الإمام حديثه فيقول: فإذا كان المرجع في القبض إلى عرف الناس وعاداتهم من غير حد يستوي فيه جميع الناس في جميع الأحوال والأوقات فكذلك العقود [ص218 ]
وقد بيَّن عدة أحوال تبين أن الإذن العرفي يجري مجرى الإذن اللفظي، يُمكن اعتبارها قاعدة بذاتها.... ثم ذكر قاعدة في المعاقد كلها حلالها وحرامها وأن الأصل في ذلك أن الله حرم أكل أموال الناس بالباطل، وهو يعم كل ما يؤكل في الباطل من المعاوضات والتبرعات، وما يؤخذ بغير رضا المستحق والاستحقاق، وأن أكل الأموال بالباطل في المعاوضة نوعان ذكرهما القرآن وهما: الربا وهو ضد الصدقة، والميسر ومن الميسر الغرر وهو المجهول العاقبة فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار، وهو ما يفضي إلى مفسدة وهي العداوة والبغضاء مع ما فيه من أكل أموال الناس بالباطل وهو نوع من الظلم. [ص222 و223].
وذكر الإمام ابن تيمية أن من أنواع الغرر ما نهى الله عنه من بيع حبل الحبلة والملاقيح والمضامين، وبيع السنين، وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وبيع الملامسة والمنابذة.
وخلص إلى فكرة مفادها أن تحريم الربا في القرآن أشد من تحريم الميسر، وأن المظلوم في الربا متعين بخلاف الميسر فالمظلوم فيه غير معين ولا هو محتاج إلى العقد [ص224]
ثم ذكر أن الله حرم أشياء مما يخفى فيها الفساد لإفضائها إلى الفساد المحقق كما يحرم قليل الخمر؛ لأنه يدعو إلى كثيرها مثل ربا الفضل. [ص226]
ثم ذكر أنواع الغرر وأنه ثلاثة:
1. المعدوم كحبل الحبلة والسنين.
2. المعجوز عن تسليمه كالعبد الآبق.
3. المجهول المطلق أو المعين المجهول جنسه وقدره ، كقوله : بعتك عبداً أو بعتك ما في بيتي. [ص228]
وقد أوضح أن مفسدة الغرر أقل من مفسدة الربا، فلذلك رضي فيما تدعو له الحاجة فتحريمه أشد ضرراً من ضرر كونه غرراً، وذكر له أمثلة مثل بيع العقار وإن لم يُعلم دواخل الحيطان والأساس [ص229] فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمناً وتبعاً ما لا يجوز من غيره. [ص 230]
وحين قرّر هذه القضية الفقهية قال ابن تيمية: إذا تبين ذلك فأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره، فإنه أخذ لك عن سعيد بن المسيب الذي كان يُقال أنه أفقه الناس في البيوع، ولهذا وافق أحمد كل واحد من التابعين في أغلب ما فضل فيه، لمن استقرأ ذلك في أجوبته، ولهذا كان أحمد موافقاً له في الأغلب فإنهما يحرمان الربا ويشددان حق التشديد ويمنعان الاحتيال إليه بكل طريق حتى يمنعا الذريعة المفضية له وإن لم تكن حيلة. [ص231]
وإن كان مالك يبلغ في سد الذرائع ما لا يختلف قول أحمد فيه أو لا يقوله لكنه يوافقه بلا خلاف عنه على منع الحيل كلها.
ثم قرّر شيئاً تأسيسياً في فقه الحِيَلِ فقال: وجماع الحيل نوعان:
إما أن يضموا إلى أحد العوضين ما ليس بمقصود.
أو يضموا إلى العقد عقداً ليس بمقصود.
وحين قارن الإمام ابن تيمية أقوال الإمام الشافعي في مسائل البيوعات مع أقوال غيره من الأئمة خاصّة مالك وأحمد، خلص ليقول عن الشافعي أنّ له أقوالاً يتعذر على الناس أو يتعسر عليهم المعاملة في العين والدين فقد اشترطه فيما في الذمة كدين السلم من الصفات وضبطها ما لم يشترطه غيره.... ولهذا يتعذر أو يتعسر على الناس المعاملة في العين والدين بمثل هذا القول، وقاس على بيع الغرر جميع العقود من التبرعات والمعاوضات فاشترط في أجرة الأجير المشهور وفدية الخلع والكتابة وصلح أهل الهدنة وجزية أهل الذمة ما اشترطه في البيع عيناً وديناً، ولم يُجوز في ذلك جسناً وقدراً وصفة، إلا ما يجوز مثله في البيع وإن كانت هذه العقود لا تبطل بفساد أعواضها أو يشترط لها شروط أخر. [ص240]
ثم ذكر أن من جوز بيع البستان من الجنس الواحد لبدو الصلاح في بعضه فقياس قوله جواز بيع المقثاة إذا بدا صلاح بعضها والمعدوم هنا فيه كالمعدوم من أجزاء الثمرة فإن الحاجة تدعو إلى ذلك أكثر إذ تفريق الأشجار في البيع أيسر من تفريق البطيخات والقثاءات والخيارات. [ص251]
ثم نبه ابن تيمية إلى أن أصول أحمد تقتضي موافقة مالك في هذه المسائل كما قد يروى عنه في بعض الجوابات أو قد خرجه أصحابه على أصوله [ص251+252]
وذكر قاعدة أن العالم من الصحابة والتابعين كثيراً ما يكون له في المسألة الواحدة قولان في وقتين فكذلك يكون له في النوع الواحد قولان في وقتين فكذلك يكون له في النوع الواحد من المسائل قولان في وقتين فيجيب في بعض أفراده بجواب في وقت ويجيب في بعض الأفراد بجواب في وقت آخر[ص252] وعاد مرّة أخرى لذكر بيان ما قد قرّر جوازه فقال: هذا القول الذي دلت عليه أصول مالك وأصول أحمد وبعض أصول غيرهما هو أصح الأٌقوال وعليه تدل غالب معاملات السلف، ولا يستقيم أمر الناس في معاشهم إلا به... وكل من توسع في تحريم ما يعتقده غرراً فإنه لابد أن يضطر إلى إجازة ما حرمه [ص 258].
وقد نبّه إلى أنّ تجوزيهم لذلك يكون كثيرٌ منه عن طريق الحِيَل، فقال: ولقد تأملت أغلب ما أوقع الناس في الحيل فوجدته أحد شيئين:
1. إما ذنوب جوزوا عليها لضيق في أمورهم ولم يستطيعوا دفعه إلا بالحيل، فلم تزدهم الحيل إلا بلاء كما جرى لأصحاب السبت من اليهود، وكما قال تعالى : (فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم)
2. وإما مبالغة في التشديد لما اعتقدوه من تحريم الشارع فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل.[ص259 ]
وكعادة الإمام ابن تيمية يستطرد ثمّ يرجع لأصول قوله الذي انطلق منه فقال: وإذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة وأكل المال بالباطل فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها، كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض وإن لم يجز غيره بعوض. [ص263 ].
ثمّ قال : ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض أو أكل مال بالباطل، لأن الغرر فيها يسير والحاجة إليها ماسة، والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضها حاجة راجحة أبيح المحرم فكيف إذا كانت المفسدة منتفية... ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقائها بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح أباح الشرع ذلك. [ص 264]
ويزيد ترجيحه تأصيلاً وتعليلاً فيقول: وبيع الثمر على الشجر بعد كمال صلاحه متعذر؛ لأنه لا يكمل جملة واحدة، وإيجاب قطعه على مالكه فيه ضرب مرب على ضرر الغرر، فتبين أن رسول الله قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج إليه على مفسدة الغرر اليسير كما تقتضيه أصول الحكمة التي بعث بها صلى الله عليه وسلم وعلمها أمته. [ص267]
ثم ذكر ابن تيمية لفتة أصولية ماتعة في سياق ذكره لهذه المسألة فقال: ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه غير ناظر إلى ما يُعارض علته من المانع الراجح أفسد كثيراً من أمر الدين وضاق عليه عقله ودينه. [ ص267]
ثمّ عرّج على مسألة وصفها بقوله : "عمّت بها البلوى " حيث أطنب في تفصيلها وتأصيلها وبيان تجويزه لها مع ذكر الأدلة والتعليلات والأقيسة العقلية والأعرف الاجتماعية وهي مسألة أن الأرض تكون مشتملة على غراس وأرض تصلح للزرع وربما اشتملت مع ذلك على مساكن فيريد صاحبها أن يؤاجرها لمن يسقيها ويزردعها أو يسكنها مع ذلك [ص 273 ].
فإذا كان فيها غراس وأرض فقد اختلف الفقهاء فيها على ثلاثة أقوال:
فقولٌ: أنه لا يجوز بحال وهو قول الكوفيين والشافعي وهو المشهور عن مذهب أحمد عند أكثر أصحابه.
وقول ثانٍ: أنه يجوز إذا كان الشجر قليلاً وكان البياض الثلثين أو أكثر وهذا قول لمالك.
والقول الثالث: يجوز استئجار الأرض التي فيها شجر ودخول الشجر في الإجارة مطلقاً وهذا قول ابن عقيل وإليه مال حرب الكرماني.
قال ابن تيمية: وهذا القول كالإجماع من السلف وإن كان المشهور عن الأئمة المتبوعين خلافه.[ص278]
قال ابن تيمية: وحجة ابن عقيل أن إجارة الأرض جائزة والحاجة إليها داعية ولا يُمكن إجارتها إذا كان فيها شجر إلا بإجارة الشجر وما لا يتم الجائز إلا به فهو جائز لأن المستأجر لا يتبرع بسقي الشجر وقد لا يساقي عليها. [ص280]، وقول ابن عقيل هو قياس أحد وجهي أصحاب الشافعي بلا شك ولأن المانعين من هذا هم: بين محتال على جوازه، أو مرتكب لما يظن أنه حرام. [ص282]
وذكر حديث: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك" [ص283] وقال: فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يجمع بين سلف وبيع فإذا جمع بين سلف وإجارة فهو جمع بين سلف وبيع أو مثله....وكل تبرع جمعه إلى البيع والإجارة مثل الهبة والعرية والمحاباة في المساقاة والمزارعة والمبايعة فهي مثل القرض. [ص 284] يُواصل الإمام فيقول : فجماع معنى الحديث أن لا يجمع بين معاوضة وتبرع؛ لأن ذلك التبرع إنما كان لأجل المعاوضة لا تبرعاً مطلقاً فيصير جزءاً من العوض....ثم ذكرَ أن من منع من ذلك فقد يفعله احتيالاً وللحاجة ويعتقدون أنهم فاعلون للمحرم كما رأينا عليه أكثر الناس [ص285] وإما أن يتركوا ذلك ويتركوا تناول الثمار الداخلة في هذه المعاملة فيدخل عليهم من الضرر والأضرار ما لا يعلمه إلا الله....وإذا أمكن أن يلتزم ذلك واحد أو اثنان فما يمكن المسلمين التزام ذلك إلا بفساد الأموال التي لا تأتي به شريعة قط فضلاً عن شريعة الله . [ص285]
وخلص لقاعدة مفادها أنّ : فكل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج وهو منتف شرعاً وأن تحريم مثل هذا مما لا يمكن للأمة التزامه [ص 286].
وقد أفاض في ذكره لحجة القول الثالث الذي اختاره ابن عقيل، وذكر الأدلة عليه شرعاً وعقلاً من عدة أوجه كذلك.
ومما ذكره من فوائد يحسن الإشارة إليها قوله: (فكل ما ثبتت إباحته بنص أو إجماع وجب إباحة لوازمه إذا لم يكن في تحريمها نص ولا إجماع وإن قام دليل يقتضي تحريم لوازمه وما لا يتم اجتناب المحرم إلا باجتنابه فهو حرام)
وقوله : (انظر في عموم كلام الله ورسوله لفظاً ومعنى حتى تعطيه حقه وأحسن ما استدل على معناه: آثار الصحابة الذين كانوا أعلم بمقاصده؛ فإن ضبط ذلك يُوجب توافق أصول الشريعة وجريها على الأصول الثابتة المذكورة في قوله تعالى : (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث)) [ص 312]
ثم ذكر أنّ التصرفات العدلية في الأرض جنسان:
• معاوضات كالبيع والإجارة
• ومشاركات كشركة الأملاك وشركة العقد. [ص329]
وهنالك تصرفات فضلية كالقرض والعارية والهبة والوصية.
قال ابن تيمية: وإذا كانت التصرفات المبنية على المعادلة هي معاوضة أو مشاركة فمعلوم قطعاً أن المساقاة والمزارعة ونحوهما من جنس المشاركة وليست من جنس المعاوضة المحضة.
والغرر إنما حرم بيعه في المعاوضة لأنه أكل مال بالباطل، وهنا لا يأكل أحدهما مال الآخر؛ لأنه إن لم ينبت الزرع فإن رب المال لم يأخذ منفعة الآخر إذا هو لم يستوفها ، ولا ملكها بالعقد ولا هي مقصودة، بل ذهبت منفعة بدنه كما ذهبت منفعة أرض هذا ، ورب الأرض لم يحصل له شيء حتى يكون قد أخذه والآخر لم يأخذ شيئاً بخلاف بيوع الغرر وإجارة الغرر فإن أحد المتعاوضين يأخذ شيئاً والآخر يبقى تحت الخطر، فيفضي إلى ندم أحدهما وخصومتهما، وهذا المعنى منتفٍ في هذه المشاركات التي مبناها على المعادلة المحضة، التي ليس فيها ظلم ألبتة، لا في غرر ولا في غير غرر.
وذكر حديث رافع بن خديج قال : "كنا أكثر أهل الأنصار حقلاً فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه لهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك وأما الورق فلم ينهنا"....وقال: فالنهي يكون على جهة محددة فيهلك منها شيء ويسلم شيء وهذا النوع حرام با ريب عند الفقهاء قاطبة وحرّموا نظيره في المضاربة فلوا اشترط ربح ثوب بعينه لم يجز. [ ص339]
وهذا الغرر في المشاركات نظير الغرر في المعاوضات؛ لأن الأصل في المعاوضات والمقابلات هو التعادل من الجانبين؛ فإن اشتمل أحدهما على غرر أو ربا دخلها الظلم فحرمها الذي حرم الظلم على نفسه وجعله محرماً على عباده،[ص339] ولهذا السبب بيّن رافع أحد نوعي الكراء الجائز وبين النوع الآخر الذي نهوا عنه ولم يتعرض للشركة لأنها جنس آخر.
ثم قال ابن تيمية: يبقى أن يُقال فقول النبي صلى الله عليه وسلم : (من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه وإلا فليمسكها) فقد أَمَرَ إذا لم يفعل واحداً من الزرع والمنيحة، أن يمسكها، وذلك يقتضي المنع من المؤاجرة ومن المزارعة.[ص345]
فيقال: الأمر بهذا أمر ندب واستحباب لا أمر إيجاب أو كان أمر إيجاب في الابتداء لينزجروا عما اعتادوه من الكراء الفاسد، وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن لحوم الخمر قال: (اهريقوا ما فيها واكسروها) وقال صلى الله عليه وسلم في آنية أهل الكتاب حين سأله عنها أبو ثعلبة : (إن وجدتم غيرها فلا تأكلوها فيها وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء) وذلك لأن النفوس إذا اعتادت المعصية فقد لا تنفظم عنها انفطاماً جيداً إلا بترك ما يُقاربها من المباح، كما أنها أحياناً لا تترك المعصية إلا بتدريج لا بتركها جملة، فهذا يقع تارة، وهذا يقع تارة، ولهذا يوجد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لمن خشي منه النفرة عن الطاعة الرخصة له في أشياء يستغني بها عن المحرم ولمن وثق بإيمانه وصبره النهي عن بعض ما يستحب له تركه مبالغة في فعل الأفضل.[ص345+346]
لهذا يخلص الإمام ابن تيمية ليقول قاعدة بأنه: فمن كان محتاجاً إلى منفعة أرضه لم يستحب له المنيحة كما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة أرض خيبر ، وكما كان الأنصار محتاجين في أول الإسلام إلى أرضهم حيث عاملوا عليها المهاجرين....وقد توجب الشريعة عند الحاجة كما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة التي دفّت ليطعموا الجياع لأن إطعامهم واجب. [ص349 ]
فلما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة الأرض أصحابها أغنياء عنها نهاهم عن المعاوضة ليجودوا بالتبرع ولم يأمرهم بالتبرع عيناً كما نهاهم عن الادخار فإن من نهي عن الانتفاع بماله جاد ببذله إذ لا يترك بطالا، وقد ينهى النبي صلى الله عليه وسلم بل الأئمة عن بعض أنواع المباح في بعض الأحوال لما في ذلك من منفعة كما نهاهم في بعض المغازي عن الانتفاع بالقدور التي طبخت فيها لحوم الحمر.[ص350]
وفي مجال آخر ذكر أن أحمد لا يرى اختلاف العقود باختلاف العبارات كما يراها طائفة من أصحابه حيث يجوزون بيع ما في الذمة بيعاً حالاً بلفظ البيع ويمنعونه بلفظ السلم لأنه يصير سلماً حالاً، فنصوص أحمد وأصوله تأبى هذا، فإن الاعتبار في جميع التصرفات القولية بالمعاني لا تحمل على الألفاظ كما شهد به أجوبته في الأيمان والنذور والوصايا وإن كان هو قد فرق بينهما كما فرق طائفة من أصحابه فيكون هذا التفريق رواية مرجوحة عنه. [ص 356]
وحين بيّن ابن تيمية أن قوماً من العلماء أدخلوا في الغرر المنهي عنه أنواع من الإجارات والمشاركات كالمساقاة والمزارعة وحرموها بناء على أنها نوع من الإجارة؛ بيّن خطأ مسلكهم وقال: وهذا الذي ذكرناه من الإشارة إلى حكمة بيع الغرر وما يشبه ذلك يجمع اليُسر في هذه الأبواب فإنك تجد كثيراً ممن تكلم في هذه الأمور إما أن يتمسك بما بلغه من ألفاظ يحسبها عامة أو مطلقة أو بضرب من القياس المعنوي أو الشبهي فرضي الله عن أحمد حيث يقول: (ينبغي للمتكلم في الفقه أن يجتنب هذين الأصلين: المجمل والقياس) وقال أيضاً: (أكثر ما يُخطئ الناس من جهة التأويل والقياس) [ص 364] قال ابن تيمية: ثم هذا التمسك يُفضي إلى ما لا يُمكن اتباعه ألبتة ومن هذا الباب بيع الديون دين السلم وغيره، وأنواع من الصلح والوكالة وغير ذلك.
ثم ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية القاعدة الثالثة في العقود والشروط ما يحل منها وما يصح وما يفسد . [ص 365].
وقال الذي يُمكن ضبطه فيها قولان:
القول الأول:
أن يُقال الأصل في العقود والشروط الحظر إلا
18180 | 216/ 502 | المكتبة الرئيسية | Available |
18181 | 216/ 502 | المكتبة الرئيسية | Available |
18179 | 216/ 502 | المكتبة الرئيسية | Available |
No other version available